الخرافة والقطيع.. تلازمية السقوط الفكري لسلطة الطغيان السياسي

بقلم / ماجد زايد
عبر التاريخ القديم والحديث لم يكن الدين مالكاً للسلطة، بل كان مملوكاً وتابعاً للسلطة السياسية بصورة من الصور وبمعنى من المعاني، السلطة الدينية لم تكن أكثر من تابع ذليل للسلطة السياسية، ولم يكن أكثر من مجرد خادمة عمياء تنافق وتخادع وتكذب لتطبيع ثقافة النظام السلطوي القائم وترسيخها إجتماعياً، ما يساعد في المحصلة على بقاء نظام السلطة واستمراريتها.
أن تخلف المجتمعات وتقدمها وقرارات تحطيمها وإغراقها في الجهل الممنهج قرارات سلطوية خالصة وسيناريوهات تتم بمساهمة الدين ورجالات الدين تحت إشراف السلطة السياسية بما يخدم بقاءها في السلطة، هذه المساهمة الرئيسية في توغل الدين ببنية المجتمع، أو بنية القوانين الحاكمة للمجتمع، كانت دائماً حاضرة في أجندة السلطة السياسية وفي ردود أفعالها بغرض واحد لا يتجاوز إستمراريتها في السلطة لا سواها.
هذه السلطات المتعاقبة في عالمنا العربي ووطنا اليمني إستخدمت الخرافات المرتبطة بالدين كوسائل فعالة وسياسة تحكمية في عمليات التثبيت الطغياني لسلطتها المنبثقة من حشود شعبية قادمة من فكرة القطيع وجماهيرها، جماهير تؤيد وتكبر وتسبح بحمد وقداسة وبركة وعظمة سلطتها القائمة.
على سبيل المثال.. إمتلأت الكثير من البلدان العربية ومنها اليمن قديماً وحديثاً بأضرحة وقبور نسبت للأنبياء والأولياء والصالحين حتى كادت تخلو أي قرية أو مدينة أو ناحية أو بلدة صحراوية من وجود قبر أو ضريح لنبي أو إمام أو ولي صالح، وغير ذلك من القبور التي يجتمع حولها الدراويش وأدعياء الدين والمتبركين بخرافات الخنوع والإنصياع، هذه محاولات ممنهجة لإبتزاز المواطنين وسلب أموالهم بالخداع والكذب والويل والثبور من عواقب الآخرة وعقاب الله الواحد القهار الذي ينزل أشـد العقاب بمن يخالف ما يريده الولي الصالح أو الامام العارف أو السيد المجاهد أو القـيّم على ضريح الاولياء المعروفين أو المجهولين.. كما إشتهرت روايات وخرافات لمسميات أطلقت قديماً عن أشخاص سيبعثون لتخليص الأمة من شقاءها وإنحرافها، اليماني، المهدي، القحطاني، وغيرهم الكثير من المخلصين، أسماء والقاب للنيل من عقول القطيع المتعطش للخلاص والتجديد، بهذه الحيل والخرافات إستطاعوا إبقاءنا قروناً بعد قرون في قعر الحضيض، بينما هم جيلاً بعد جيل إستمروا في ممارسة دور المخلصين المجددين الحاملين للدماء الطاهرة والنقية، الدور والدم الذي بواسطته عاشوا ملوكاً تجري من تحتهم إنهار النعيم والملكوت.
هذه الترهات وغيرها الكثير أسقطت العقل العربي البسيط في فخ الخرافة الجاهلية وأخذت تعتاش عليها وتتناقلها عبر الأجيال المتلاحقة.
ومن ناحية فكرية مثلت هذه الخرافات الدينية والسياسية قيوداً ثقيلة على العقل والفكر، وعبر إستمراريتها لقرون أصبح العقل العربي المتدين شكلاً معاقاً، محدوداً وأسيراً في معظم التفاعلات، غير أن أخرين تمكنوا من الوصول إلى ثقافات مختلفة وجديدة خارج نطاقهم العربي المتزمت بالدين، الأمر الذي واجهوا بسببه تهم بالخيانة والإنحلال والإنسلاخ من هويتهم، الأمر الذي أجاز بحقهم المحاكمات والعقاب والتحذير من توجهاتهم وأرائهم وإرثهم الفكري والسياسي، رفاعة الطهطاوي أحد هؤلاء، عاش في فرنسا وتأثر بها والف كتاباً عن الإنغلاق العربي وسياسة الخرافات والتجهيل أطلق عليه «تخليص الابريز في تلخيص باريز»، أيضاً طه حسين درس وتعلم في فرنسا وتعرض في وقت مبكر للعقاب في محاكمة أسميت محاكمة القرن بسبب كتابه الشهير عن الشعر الجاهلي، الذي أجبرته السلطات الفقهية حينها على التنازل عن آرائه فيه وتغيير عنوان الكتاب بعد حذف فصول منه إلى كتاب في الأدب الجاهلي.
وتاريخياً، تعرض أغلب الذين حاولوا الخروج عن ثقافة الخرافة العربية الدينية مثل المعتزلة وابن رشد وغيرهم لإضطهاد وتعذيب وتخوين وقتل وإحراق لكتبهم، ما أضطر أخرين منهم وبعدهم للإختفاء عن المشهد الثقافي والسياسي العلني مثل إخوان الصفاء وخلان الوفاء.
وفي الخلاصة نرى حلم الخلاص من هذه الخرافات العربية الدينية متحقِقِاً كلما إقتربنا أكثر من ثقافات العالم المتنوعة والبعيدة، الثقافات الأخرى وعلى الأخص المادية منها والملموسة، تلك المبنية فعلياً على التجارب العلمية والعملية.
هذا النوع من الطغيان الفكري والشعبي والسياسي يعتبر البيئة الأساسية الحاضنة للتخلّف والتجهيل والخرافات، وهو المستنقع الأكبر الذي تنمو فيه طحالب التعصب والإرهاب والتدين التطرفي والطائفية، كما يعتبر الحامي الأكبر للتشريعات الدينية مطلقة التكريس والقوانين البائدة ، من جانب أخر يمثل نقد الدين والأساطير والخرافات الدينية، أمراً مهماً وضرورياً ولازماً في جميع الثقافات، خصوصاً بمجتمعاتنا العربية الحافلة بالخرافات الدينية والغيبية، ولكن ما بات واضحاً بعد كل التجارب التاريخية التي مرت بها شعوبنا، نجد صعوبة في تحرير المجتمع من خرافاته تحت حكم السلطات الديكتاتورية الراعية لقطيعها الكبير من الجماهير، ومما لا شك فيه فإن الطغيان هو الراعي الأكبر لثقافة القطيع الدينية، التي يشرف عليها عبر مناهج التربية والتلقين، ويعيد إنتاجها في المدارس والجامعات ودور العبادة، وفي مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية والمدنية. وكما يقول “ماهر مسعود” الباحث والمفكر السوري في أحد أبحاثه: أن ثقافة القطيع هي الضامن الأكبر لبقاء السلطة الطغيانية الحاكمة والأرض الخصبة لحكمها.
كل هذه التقاليد المتخلفة والخرافات القديمة التي ترعاها السلطات في مجتمعاتها هي ذاتها أبرز عوامل صناعة ثقافة القطيع والعبودية، وأهم داعم موضوعي لبقاء الحاكم مؤبداً في السلطة، الحاكم الذي لا يلبث بأن يتهم المجتمع المنتج لتلك العادات والتقاليد بالتخلف والإرهاب في حالة تبريراته لحالة الفساد والديكتاتورية والطغيان الأعمى في نظامه، وبذلك يصبح التخلف ضرورة لبقاء الطغيان، والطغيان نفسه ضرورة لحماية المجتمع من تخلفه، وفي الأخير ضرورة حتمية لحماية العالم أيضاً منه ومن إرهابه.
هنا يأتي الدور الأهم والأبرز في هذه اللعبة والسيمفونية الراديكالية المتعجرفة حينما نجد مجموعة من المثقفين العضويين الفعليين يعملون بإرادة حقيقية وشجاعة إستثنائية لنقد ثقافة السلطة القائمة وطريقتها التجهيلية، لتأسيس ثقافة مضادة، تمنع قبول الناس العاديين لثقافة السلطة على أنها من طبائع الحياة وصروفات الدهر. وبالتالي فإن عضوية المثقف العضوي وفقاً لـ الفيلسوف الماركسي «أنطونيو غرامشي» تنبع من ارتباطه بحقوق وحاجات المجتمع الحقيقية وكفاحه ضد السلطة التي تعمل عبر أدواتها ومثقفيها على إقناع الناس بأن ما يعيشونه من بؤس هو الطبيعي ومن طبائع الحياة، وليس من عملها هي ومن انعدام العدل الذي تُشرف على استمراره.
أخيراً، ووفقاً لمعظم المفكرين السياسيين علينا أن ندرك جميعاً بأن المصدر الأساسي للشقاء والبؤس الذي تعانيه شعوبنا العربية على وجه الخصوص ليس نتاجاً للإقتصاد وضعف الموارد والمواد الأولية والبنى التحتية وصراع الطبقات والاستغلال الرأسمالي كما ظن الماركسيون، ولا من الدين والخرافات والغيبيات الحاكمة لثقافتنا كما يظن الثقافويون، بل هو نتاجاً عملياً للسلطة السياسية، سلطة القمع والإرهاب والتوحش والديكتاتورية والطغيان، وفي المحصلة ليس بإمكان أحد فصل الدين عن الدولة قبل فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية عن بعضها، كما لن يتحرر الإقتصاد أو يزدهر دون التحرر من مافيا السلطة الحاكمة المستحوذة على كل مفاصل التجارة والإنتاج، أيضاً لن يتحرر الدين من إرهابه دون التحرر من إرهاب السلطة ودين السلطة الواحد.
(نقلا عن منظمة نسيج الإعلامية)