كيف تحولت الشوارع والجدران في اليمن الى حركات سياسية؟!

بقلم / ماجد زايد

في أخر لقائاتي بالرسام الجرافيتي اليمني ذي يزن العلوي (24 عاماً) مررنا بإحدى جدارياته في أحد شوارع صنعاء لنرى حالها بعد قرابة أسبوع من رسمها ، جدارية يزن الموسومة بغاية نبيلة أطلق عليها “رقص بلا أطراف“ تكره الحرب وتناهض زراعة الإلغام في البلد الذي يعيش عامه الخامس من الحرب والنزاع المسلح.

كل فنان يشتاق لمخلوقاته والرسام يزن يحن إليهن في معظم الليالي ، يقول يزن: لقد صِرن ملكاً للناس ، ملكاً لشوارعنا الحزينة ، لأرصفتنا الباردة ، للمشردين في ليالي الخوف والفقر ، للجميع ، لكن جزء من قلبي يحن اليهن كلما تألم ، فنان الشوارع يهدي الناس من قلبه وينحت البؤس والأحلام في جدرانهم البعيدة.. هكذا يكون الفنان في حياة الناس.

إقتربنا أكثر وأكثر من الجدارية في جولة الرويشان بصنعاء، وكلما تلاشت المسافة زادت الدهشة.. وصلنا أخيراً ووجدناها بقايا أطلال وأوجاع كانت مرسومة في هذا المكان ، قال يزن لقد إنتصروا عليها يا صديقي..

لا، لا أظنهم يملكون ذلك..!!

لقد حاولوا الإنتصار علينا ، حاولوا طمس روحها وأوجاعها.. أي بشر هؤلاء !!

ملامحها باقية وصوتها الضعيف لا يزال محلقاً في هذا المكان لم يغادر ، لكنهم بالفعل حاولوا تمزيقها..!!

وضعنا أيدينا عليها وتحسسنا بقايا جسدها بينما يقاوم الحرب بمفرده ، لم يزل بعد يرقص فوق إلغامهم المزروعة في الوطن ، لم يزل بعد يُحدث الناس عن حكاية الإلغام في بلاد الحرب والفقر والصراع الأهلي المتعمق يوماً بعد يوم..

وفجأه مر شاب يحمل مسطرةً في يمينه وحقيبة في يساره ، يقول الشاب بينما يبتسم بتعجب:

– هل تحاولون طمس اللوحة ؟!

كأنه يقول لنا: لماذا تحاولون ذلك..!! هذه اللوحة ملكنا جميعاً.. هل أنتم من طمسها ؟! هذه اللوحة صارت تعرفني وأعرفها ، ما شأنكم ولها..؟!

تراجع يزن قليلاً وهو يقول: أأنت تمنعنا من إزالتها أم ماذا ؟!

إبتسم الشاب وقال: لماذا تريدون إزالتها ، ما صنعت بكم ؟!

إبتسامة هذا الشاب تخجل من شكلها ، كان يريد الصراخ في وجوهنا ، في وجوه من يريدون طمس اللوحة ، من يحاولون طمس بقايا ملامح سلام تمناه الجميع ، كان يريد لعن الإوغاد كلما مر بجوارها لكنه يخجل.. يخجل وربما يخاف ، هو بالفعل يدرك زمن العصابات والميليشيات ، حاول الدفاع عن جسد الفتاة المتبقي بإبتسامة تخاف ، الله ما أجمل هذا الشاب وهو يخفي وجعه خلف إبتسامه !!

تدخلت في الحديث وقلت للشاب مشيراً بيدي الى يزن.. هو من رسم الجدارية.. قال الشاب: أأنت فعلاً يزن ؟! أجبته بنعم هذا هو.. قال يزن شكراً لك يا صديقنا.. أنت حقاً إضافة كبيرة في نفوسنا ، لم نكن نتوقع أن الفن في الشوارع مؤثر الى هذا الحد ، كنا نفترض والكثير منها لا يصيب ، لقد فاجئتنا حقاً ، شكراً لك ، هذا الفن وهذه الجداريات لجميع للناس، للفقراء، للمساكين، للحالمين، للخائفين، للشباب البائسين، للفتيات المضطهدات، للوطن الحزين.. لم يتبقى شيء من وطننا سوى ما يقدمه الناس العاديون للأخرين ، لن نتوقف يا صديقنا وسنرسم أكثر وأكثر ، سنقاوم بالفن وننحت المستقبل للشعب المكلوم ، شكراً لك أيها الشاب ، شكراً لكل شخص يعي ويحب ويدافع عن الفن ، شكراً لكل الناس المناهضين للحرب في ذروة العصابات ، شكراً للحالمين المتفانين في سبيل الفن والحب والسلام.. 

بالفعل يا أصدقاء الفن في شوارع صنعاء يتوسع ويزداد كلما إزدادت الحرب في طغيانها ، منسوب الفن والجمال يزداد في نفوس الناس ، وبالفعل هو يمحى من الجدران والشوارع لكنه رغماً عنهم خالد في القلوب والعقول..

غادرنا المكان وظللت أردد على يزن قائلاً: لا أحد ينتصر على قلوب الناس يا صديقي ، لا أحد ، حتى لو لم يبقى جداراً فارغاً للجمال ، حتى لو طمسوا كل جداريات المدينة بأياتهم وعباراتهم وقتالهم ، الفن والفن فقط سيبقى ملاذاً وحباً وعشقاً للمشردين والبائسين والمدمرين ، سيبقى تعبيراً عن الأحلام الخائفة والعيون الباكية ، سيبقى ملاذا للشباب وعشقاً للكبار وحباً للصغار..

الجرافيتي واللاحركات إجتماعية:

الفن ظاهرة إنسانية لا يقل أهمية عن العلم أو الأخلاق في تحقيق فضيلة التكامل النفسي والإجتماعي للإنسان، ولا شك أن البحث الفلسفي في مشكلات الفن له قيمته، لا من حيث هو تحليل فكري وحسب، بل لأنه يزيد من إستمتاعنا بالموضوعات الفنية، ويوسع فهمنا لها، ويفتح أمام الناقد والمتذوق آفاقاً جديدة يطل منها على ميدان الفن.

الجرافيتي جزء من الفن اللاحركي للمجتمع، فن الفقراء وفاعليتهم، هو جزء من الفنون البصرية المعاصرة، فنون ما بعد الثورات، ما بعد الحداثة العربية بشكل أعمق، وبطريقة أخرى هو تعبير عن حياة الناس وممارساتهم، وتعبير عن وجود الناس على الساحة السياسية، متجاوزاً كلاسيكية وجوب إفراز المجتمع حركات اجتماعية معينة قادرة على قيادة التغيير.

مفهوم اللاحركات إجتماعية يحال إلى الأفعال الجماعية لفاعلين غير جمعيين، وهي تتميز بعفوية مطلقة غير منظمة، وتنتهي بانتهاء الهدف الذي تأسست من أجله، ولها مميزات كانحسارها وتوجهها نحو الفعل وليس الإيديولوجية، هادئة بشكل كبير ومبتعدة كلياً عن الانتشار الضوضائي.

الحركات الاجتماعية بعكسها تقوم بالضغط على الحكومة من أجل تحقيق المطالب، لكن اللاحركات تقوم بالممارسات بشكل مباشر، مثلاً حسب أصف بيات في كتابة “الحياة سياسة” : لا تحتاج النساء الإيرانيات الى الاحتجاج على التضييق على الحريات، ولكنهن ينتهكن وبشكل يومي القواعد الأخلاقية التي يفرضها النظام الإيراني.

هذا الأمر يصبح ممارسات تختلط مع الحياة اليومية للناس، ومع الوقت والتكرار اللاإرادي تكون جزءاً من حياة المواطن البسيط.

قوة اللاحركات تكمن في إشتراكها بين الملايين. فالعدد الكبير يضفي مشروعية على الفعل، وتصبح قمع هذه الممارسات غير ممكنة.

ثمة خاتمة:

الشوارع  في الحالة اليمنية أضحت مسرحًا للأحداث السياسية والمعطيات الناجمة عن الحرب والصراع السلطوي، هذه الحالة شبيهة إلى حد ما بما حدث أثناء الثورة الفرنسية، وفي أوروبا الشرقية؛ إبان الحروب والصراعات التي شهدوها آنذاك، في اليمن أضحت الشوارع ملاذاً لجميع الفئات خصوصاً من ينتمون للطبقات الدنيا والوسطى، والذين لا يمثّلون جزءًا من مراكز صنع القرار.

الشارع هو المكان الذي يجمع المعروف والمجهول والمرئي والصوتي. وفيه تتكون العواطف والآراء، وتنتشر الأفكار. وعندما يقع الشارع في قلب المدينة، يكون ذا أهمية كبيرة لقربه من وسائل المواصلات والطرق الرئيسة، ما يشير إلى أهمية الميادين والمناطق الحيوية في قيادة التغيير.

الشارع في اليمن أصبح بمثابة صوتا لفئات اجتماعية لم تكن مسموعة من قبل ، المهمشين، النساء، الشباب، والعاطلون عن العمل.. ويرى كثيرون أن هؤلاء الأفراد العاديين الذين لا ينتمون إلى فئات النخبة، قادرون على تغيير السياسة من خلال سلوكياتهم اليومية البسيطة التي تأخذ شكلاً احتجاجا سلبيا على الأوضاع والمظالم، شكلاً قد يقتصر على مشاركة الفنانين في الرسم ضد الفقر والجوع والحرب، لأجل السلام والعدل والمساواة، ولو كان الأمر مجازاً في توقعاتهم إلاّ أنه ذو شأن عظيم في ضمائرهم ونفوسهم.

هذه القضايا الحساسة في الشارع اليمني عقب التركيز على العوامل المفسرة للاحركة اجتماعية فيها ماهي الاّ نتيجة حتمية لإخفاق الدولة القومية، وبناءاً على ذلك تراجعت الخطابات الإيديولوجية، في مقابل بروز توجهات جديدة هوياتية وإثنية وعرقية، هو أذاً فشلاً الإسلام السياسي على المستوى المجتمعي بشتى أشكاله، فارزاً موجة جديدة لما بعد الإسلاموية، ولعل ظهور موجة الرفض الشعبي للإنسياق للأنظمة القمعية والإيديواوجية، يعبر بشكل عميق عن هذه الدينامية الجديدة.

اترك تعليقاً