يونس وشعبان.. سائقان يتبادلان الجثث بين حدود ثلاثة بلدان

فأغلبية واضحة من المهاجرين واللاجئين والنازحين المقيمين في واحدة أو أخرى من هذه البلدان، حريصون على نقل ودفن جثث المتوفين من أهلهم إلى البلد الأصلي، وغالباً ما تكون حسب وصية المتوفى.

تمضي ساعات قليلة، حتى يحمل يونس التابوت الذي في سيارته ويضعه في سيارة شعبان، ويحصل العكس أيضاً، يتوادعان بابتسامة مُقتضبة، ويمضي كل منهما إلى الجهة التي قدم منها.

يونس بوزداغ، كردي من تُركيا يعمل سائقاً لسيارة الإسعاف الخاصة في “معبر إبراهيم خليل” بين تركيا والعراق، يقول في حديث مع سكاي نيوز “قبل قرابة 8 سنوات حصلت على فرصة عمل في وزارة الصحة التركية، وتم فرزي منذ 5 سنوات للمستوصف الحكومي في النقطة الحدودية مع العراق، التابع لولاية شرناخ”.

ويتابع قائلا: “منذ ذلك الوقت أنقل جثث المتوفين من المواطنين السوريين والعراقيين من تركيا إلى النقطة الحدودية المقابلة، وغالباً ما ألتقي شعبان صدقي، الذي هو كُردي سوري، ويعمل سائقاً لسيارة الإسعاف في نقطة فيشخابور الحدودية بين سوريا والعراق، ويقوم بنقل جثث المتوفين من سوريا. أدخل أنا كل صباح من تركيا إلى العراق، بينما يكون شعبان قد من سوريا إلى العراق، نلتقي لقرابة ساعتين، نتبادل التوابيت، ويمضي كل واحدة إلى الدرب الذي قدم منه”.

يضيف شعبان تعليقاً على حديث زميله “ربما تبدو العلاقة بيني وبين يونس غريبة نوعاً ما، نحن شخصان نتبادل الجثث يومياً؛ لكننا استطعنا قدر الممكن التغلب على كمية الضغوط النفسية والوجدانية على هكذا عمل، وتحويله إلى مهنة مُجردة؛ لكن كلينا يفشل في مرات كثيرة، نشارك المشيعين دموعهم وحكاياتهم وعلاقاتهم مع المتوفين، خصوصاً حينما يكون هؤلاء المتوفون من أعمار شبابية أو قضوا جراء حوادث سير أو حالة موت مفاجئة، فهذه الحالات تُجبرنا على المشاركة في موجة الحزن الجماعية. لكن حينما يحمل أحدنا واحدة من هذه الحالات، فأنه ينبه الآخر مسبقاً، ليبتعد عن ذوي المتوفى قدر المستطاع، وليتجهز سلفاً عمل ينتظره”.

 

يروي السائقان سيلاً من الحكايات التي صادفاها خلال السنوات الماضية، عن أباء لم يتمكنوا من عبور الحدود مع جثث أبنائهم، لأسباب وعقوبات سياسية تنتظرهم في الجزء الآخر من الحدود، أو جثث بُعثت لوحدها دون أي مرافق، لمهاجرين كانوا وحدهم في بلاد الغربة، أو أمهات وأخوات استقبلن جثث أبنائهم وأخواتهم الشبان بالزغاريد الممزوجة بالدموع.

العلاقة الاستثنائية بين السائقين تشكل استعارة عن الأحوال العامة في البلاد الثلاث، والكثير من بلدان المنطقة، حيث ثمة الملايين من النازحين واللاجئين غير النظاميين المستقرين في واحدة أو أخرى من الدول الثلاث. فثمة أكثر من 3 ملايين سوري يعيشون في تركيا، ونصف مليون في العراق، بينما يعيش مئات الآلاف من الأتراك في العراق، وعدد أقل في سوريا. وأغلب هؤلاء يفتقدون لأوراق ثبوتية نظامية، ولأسباب سياسية وأمنية فإن المعابر الحدودية النظامية وخطوط الطيران مغلقة بين هذه البلدان، ويجري إعداد عمليات النقل عبر سلسلة من الإجراءات البيروقراطية والأمنية المُعقدة التي تطول لأيام.

تسمح السلطات الحاكمة لمنطقة شمال شرقي سوريا بمرافقة بعض ذوي المتوفين مع الجثامين، والسلطات في إقليم كردستان العراق تفعل الأمر نفسه، تقديراً للظرف الخاص لحالة الموت، بينما تطبق الأنظمة التركية النافذة الإجراءات البيروقراطية التامة للدخول والخروج من البلاد على كافة الحالات، بما في ذلك الموت، هذا الأمر الذي يدفع في أغلب الحالات لأن تخرج جثث المتوفين وحيدة من تركيا، خصوصاً من النازحين السوريين، الذين لا يملكون بأغلبيتهم المُطلقة أوراق ثبوتية نظامية، تخولهم العودة إلى تُركيا من جديد.

 خلال السنوات الماضية حدثت بعض الأحداث المأساوية المتعلقة بهذا الأمر، فالكثير من العائلات تعرضت لإطلاق النار حينما جربت “تهريب” جثث ذويهم عبر الحدود بشكل غير نظامي، في المناطق الحدودية، حيث تحولت الجثة الواحدة إلى أكثر من جثة.

حتى داخل واحد أو آخر من هذه البلدان، فإن الجثة نفسها يُمكن أن تعبر أكثر من نقطة حدودية. ففي سوريا مثلاً، تنتقل الجثة بين مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرقي سوريا ومناطق سيطرة قوات المعارضة في شمال غربها، أو مناطق سيطرة النظام. الأمر نفسه يحدث بين إقليم كردستان العراق وباقي مناطق العراق، حيث تُسيطر الحكومة المركزية.

في نفس المعبر الحدودي “فيشخابور” بين سوريا والعراق، يروي الشاب السوري الثلاثيني آرمانج يوسف لسكاي نيوز عربية كيف أنه نقل جثة والده المتوفى في هولندا بسيارته الخاصة بين 12 دولة أوربية خلال يوم واحد، دون أن يتوقف إلا للتزود بالوقود، وكيف أن الأمر طال به لقرابة أسبوع كامل ليتمكن من نقل نفس الجثة في المثلث الحدودي بين هذه البلدان الثلاث، مذكراً بأن والده عاش في سوريا لأكثر من 60 عاماً دون أن يكون له وثيقة إثبات شخصية واحدة، فقد كان من مئات الآلاف من “أجانب محافظة الحسكة” الذين سحبت السلطات السورية الحاكمة منهم الجنسيات السورية منذ عام 1961، لأسباب سياسية، وحتى جثثهم تدفع ثمناً لما جرى وقتئذ، وباقي مواطني سوريا ليسوا مختلفين عن حالة والد آرمانج إلا بشكل نسبي للغاية.

في نفس المقهى في المعبر الحدودي، تجلس سكاي نيوز عربية مع السائقين يونس وشعبان، وتسألهما إذا ما كان أبناؤهما يعرفون طبيعة مهنتهم، فيجيبان دون تردد “لا”، فما يقومان به بشكل يومي وروتني، أقسى من أن يروى لهم، مثل الكثير من أحوال المنطقة، كما يذكران بالضبط.