ماكرون في أوكرانيا.. قليل حيلة وحليف غير محبوب

نشرت صحيفة “لوموند” الفرنسية، بالتزامن مع زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى أوكرانيا، مقالاً لموفديها إلى كييف ودونباس، توما ديستريا وريمي أوردان. يقول الصحفيان، إن قائد كتيبة من سلوفانسك في دونباس، كان جالساً تحت شجرة يشرب القهوة، ثم طلب من رجاله الكف عن “الماكرونية” قبل أن ينفجر الجميع بالضحك.

و”الماكرونية Macroner” أصبحت كلمة جديدة تدخل في اللغة الأوكرانية؛ من ناحية بفضل الرئيس الفرنسي لأنها اشتُقت من اسمه، ومن ناحية أخرى لسوء حظه، لأن معناها لن يسرّه؛ فـ”الماكرونية”، أو “الماكرونيت” بالعامية، تشير إلى نوع من الفوضى والتحدث لعدم قول شيء مفيد.

ووفقاً لمعجم الكلمات الأوكرانية المعاصرة، تم إعطاء تعريف لهذه الكلمة ضمن قاموس خصص لتعابير زمن الحرب الدائرة الآن، يقول: “الماكرونية هي أن تكون قلقاً للغاية بشأن موقف ما، وأن تتأكد من أن الجميع يرى مدى قلقك، وفي النهاية لا تفعل شيئاً”.. باختصار “قليل الحيلة” بالعربية.

بالعودة قليلاً إلى الوراء، وتحديداً إلى شهر مارس الماضي، ظهرت صور للرئيس الفرنسي نشرها الإليزيه، بعد إجرائه مكالمة هاتفية مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين. بعد تلك الصورة ظهر مصطلح “ماكرونية” في أوكرانيا، واستوحي من تعابير القلق التي بدت على ماكرون وحرص المصوّر على التقاطها.

انتشر المصطلح الجديد في أوكرانيا كالنار في الهشيم، وخصوصاً في صفوف الجيش، وهو يعبّر بشكل أو بآخر عن علاقة ضبابية بين أوكرانيا والرئيس الفرنسي، تبرهنها مواقف كثيرة، كالتي ظهرت أخيراً بسبب التباس وقع بعد تصريحات لماكرون دعا فيها إلى “عدم إذلال روسيا”، ما فُسّر حينها على أنه تراجع في حدة الإدانة الفرنسية لما تقوم به روسيا في أوكرانيا، واستدعى ذلك رداً من وزير الخارجية الأوكراني ديمترو كوليبا بأن “الدعوات إلى عدم إذلال روسيا تذلّ فرنسا..”.

هذا التصريح لم يكن “الهفوة” الوحيدة لماكرون بنظر الأوكرانيين، فخلال التصعيد اللفظي من قبل الرئيس الأميركي جو بايدن ضد روسيا وبوتين، حاول ماكرون إظهار تمايز فرنسي، وأوروبي في آن -عندما كانت باريس تترأس الاتحاد الأوروبي- عن الموقف الأميركي، فرفض موافقة نظيره الأميركي على وصف الرئيس الروسي بـ”الجزار” داعياً إلى “عدم التصعيد سواء بالأفعال أو الأقول”.

بعدها بفترة، رفض مجدداً اتهامات بايدن لبوتين بأن ما يفعله في أوكرانيا “إبادة جماعية”، واعتبر أن الأوكران والروس شعبان شقيقان، ما أثار غضب الأوكرانيين مجدداً، فرد المتحدث باسم الخارجية الأوكرانية أوليغ نيكولينكو على ماكرون بالقول، إن “أوكرانيا وروسيا قريبتان من الناحية التاريخية، لكن أسطورة الشعبين الشقيقين تحطمت عندما أصابت الصواريخ الروسية الأولى المدن الأوكرانية. الشعب الشقيق لا يقتل الأطفال، ولا يطلق النار على المدنيين، ولا يغتصب النساء، ولا يهدم منازل إخوته”.

للوهلة الأولى، يبدو لمن يستمع لكلام ماكرون، وكأنه أمام شخص ركب، في ظاهر الأمور، موجة تضامن عالمية مع أوكرانيا، لكنه في العمق يؤمن بأن بذرة صالحة في بوتين قد تدفعه لوقف الحرب يوماً، وهذا أمر أربك الجميع وجعل تفسير الموقف الفرنسي الحقيقي تجاه ما يحدث مسألة في غاية الضبابية أمام حقيقة بسيطة: جيش مدجج بالسلاح يهاجم المدن، وصواريخ روسية تنهمر، وما تزال، على رؤوس المدنيين.

في الواقع، لا يبدو أن هناك مشكلة سياسية بين أوكرانيا وفرنسا كدولتين، وإنما هناك مشكلة لدى أوكرانيا مع تصريحات ماكرون، لدرجة أن هناك من بات يسمي الرئيس الفرنسي بـ”أكثر حلفاء أوكرانيا المكروهين في البلاد”، خصوصاً وأن الرئيس الأوكراني فلودومير زيلنسكي قدّم فرصاً كثيرة لماكرون كي يثبت فعلاً أنه حليف لأوكرانيا من دون شروط، وأبرزها دعوته لزيارة كييف في إطار الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوربي، مستغلاُ حماس ماكرون ومكالماته الهاتفية التي لا تنقطع مع زيلنسكي، إلا أن كلّ ذلك لم يجدِ، وفجأة انقطعت الاتصالات بين الزعيمين لشهر تقريباً بعدما كان ماكرون يهاتف زيلنسكي أكثر مما يهاتف رئيس وزرائه في باريس جان كاستكس.

وعندما قرر الرئيس الفرنسي أخيراً الذهاب إلى أوكرانيا، فعل ذلك فقط عندما انتهت رئاسة بلاده للاتحاد الأوروبي، ففرغت الزيارة من أهميتها ورمزيتها، وكان حضوره هناك، يوم الخميس الماضي، كأنه لم يأتِ أو كأنها كانت زيارة لـ”قليل حيلة” لن تقدم ولن تؤخر في الأمور شيئاً، بل ربما ستغذي مناخ القلق العميق في العلاقة بين أوكرانيا وماكرون.