من النول إلى الأجراس.. حرف لبنانية قديمة تصارع من أجل البقاء

وتعود هذه الحرفة اليدوية إلى قرون مضت وتوارثتها أجيال، لكن الابنة هنا فياض تخشى اليوم أن تموت هذه الحرفة معها، بما أنها لم تنجب أي أطفال، فيما اختار ابن أخيها الوحيد التوجه نحو مهنة أكثر ربحا من أجل الصمود في وجه الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمرّ بها لبنان.

وأوضحت هنا فياض قائلة “من حدّ فياقي هذه الحرفة كانت في بيتنا من أيام المرحوم جدّي، زاولها حتى سن الرابعة والستين توفي، كان عمره 64 سنة، وأخذها المرحوم والدي عنه، يعني أكيد اشتغلها على عين حياته وكفى فيها وطوّر في الحرفة كتير، ابتكر قطب جديدة ونوعيات قماش جديدة ورسم جديد“.

وبعد مرور نحو ثلاث سنوات على أسوأ أزمة مالية اقتصادية يشهدها لبنان، بات عدد قليل من المواطنين قادرا على شراء عباءات وملابس فياض الملونة والمزخرفة والتي قد تستغرق أحيانا ما يصل إلى أربعة أسابيع حتى تصبح جاهزة.

وتكشف فياض أن العديد من الحرفيين أُجبروا على التخلي عن حرفهم التي كانوا يمارسونها لوقت طويل واختاروا وظائف تدر أموالا يستطيعون من خلالها تأمين استمرارية العيش.

وقالت هنا فياض إن “الحرفي لم يأخذ حقه في لبنان، لم يأخذ حقّه، لم يُعطَ ولا أي أولوية مثل بقية الاختصاصات، يعني لا تستحق هذه الحرفة، نحن نزاولها بمجهودنا اليوم من بعد هذه الصعوبات ومن بعد هذه الأحداث التي مرّت في لبنان، كل يوم والثاني يحصل حدث جديد وأشياء سيئة تمنع بعض الحرفيين“.

وقد ارتدى زعماء من العالم عباءات هذا المشغل في قرية بشتفين وبينهم رئيس كوبا الأسبق فيديل كاسترو، وإمبراطور الحبشة هيلا سيلاسي، وأول رائدة فضاء سوفيتية، فالنتينا تريشكوفا، والأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان الذي أهداه الزعيم الدرزي وليد جنبلاط عباءة تذكارية.

وأوضحت هنا فياض أن أهلها كانوا يعتمدون في الماضي على هذه الحرف “كانوا بالماضي يعتمدوا على هذه الأشياء، على هذه الحرف، كان في الفخار وغيره. وإذا انقرضت، لأن أجيالا كثيرة لم تتعلمها، فلن تستمر هذه المهنة، أكيد لا يعود يوجد استمرارية، يعني الذي يموت قديمه، لا يوجد أحد يشتغل من بعده، يعني بتنتهي المصلحة، الحرفة“.

وتشعر هنا فياض اليوم بإرهاق كتفيها وركبتيها بسبب العمل على دواسات قدم النول وتمرير المكوك الذي يحتوي الماسورة من جانب إلى جانب النول.

لكنها مع هذا الارهاق تزاول عملها خشية فقدان الصنعة الفريدة.

وقالت “هذه الحرفة هي تراث، هي من تراث أجدادنا، هي فن، هي ثقافة في حد ذاتها، هي وجه من وجوه السياحة في لبنان … لبنان يعتز بالحرف التي عنده، بتراثه“.

وأضافت “نحن بدنا نعمل على استمراريته، إن كان أنا أو غيري أكيد“.

وعلى عكس فياض فإن نفاع يوسف نفاع واثق من أن حرفته ستستمر لأجيال بعده، وهو بدأ في تعليم أولاده الصغار تقنيات عمله الفني الموروث.

وينتمي نفاع إلى سلالة طويلة من صانعي الأجراس في قرية بيت شباب الجبلية التي تبعد 24 كيلومترا شمال بيروت.

وفي أواخر القرن التاسع عشر كانت هذه المنطقة تؤوي 10 عائلات تعمل في صناعة الأجراس لكن اليوم لم يتبق غير عائلة نفاع.

وقال نفاع إن الأجراس هي “صناعة جميلة جدا وفريدة من نوعها وقليل وجودها في كل العالم، في كل الدنيا… الجرس يدعو الناس إلى الصلاة، يدعو الناس إلى الذهاب إلى الكنيسة، الجرس يخبّر الناس إذا فيه حزن، إذا فيه فرح، إذا فيه أي مشكلة. هذا إنجاز مهم كثير، لهذا السبب أنا رغبت أن أعمل في هذه الصناعة وأواصل عملي فيها، وأن أعلّمها لأولادي وأولاد أولادي“.

وقال الحرفي، وهو جالس في ورشة عمله المزدحمة والتي تقع على قمة تل يطل على قرية جدوده بيت شباب، “هذه الصناعة زُرعت بي، زُرعت في داخلي، لم أتفاجأ بمحبّتها… نشأت معها خطوة بخطوة حتى تعلمتها“.

ومثل معظم اللبنانيين، تأثر الحرفي البالغ من العمر 52 عاما بالأزمة الاقتصادية الحادة حيث ارتفعت أسعار المواد الأولية التي يستعين بها من أجل صناعة أجراسه، بما فيها النحاس الأحمر والقصدير. أما الطلب على أجراسه اليوم فقد أصبح نصف ما كان عليه قبل الأزمة.

وأوضح قائلا “بالأول كان على 1500 (ليرة لبنانية) الدولار، يبقى سعر الجرس خمسة أو ستة آلاف دولار ما كان يساوي سبعة أو ثمانية ملايين ليرة. اليوم، إذا أخذنا جرس 200 كيلو سعره عشرة آلاف دولار، صاروا تقريبا يساووا حوالي الـ300 مليون (ليرة) … يعني مثل ما كنا نعمل بالسنة 30 أو 40 قطعة، الآن نعمل 10 أو 15 قطعة“.

ومع ذلك لا يعتزم نفاع التخلي عن مهنته العريقة، داعيا جميع الحرفيين اللبنانيين إلى التمسك بصناعاتهم وحرفهم قائلا إن “الحرفيين اللبنانيين في كل لبنان عليهم أن يرجعوا يشتغلوا بأيديهم، يجب أن ينمّوا صناعاتهم وحرفهم… لأن هي كنز، إن كان عند الذي يشتغل بالجرس أو الذي يشتغل بالفخار أو بالزجاج أو بأي حرفة، مصلحته في بيته“.