رحيل صباح فخري.. عراب “القدود الحلبية” وملك مسارح الطرب

ولد فخري باسم صباح الدين أبو قوس عام 1933 في حلب القديمة، حيث كان محاطا بثلة من شيوخ الطرب والمنشدين وقارئي القرآن وصانعي مجد القدود الحلبية، واعتاد والده اصطحابه صغيرا إلى جامع “الأطروش” في الحارة القريبة حيث تقام حلقات الذكر والإنشاد.

نبوغ مبكر

وفي باب “النيرب” كانت له أول حلقة إنشاد مدفوعة الأجر، وهو لم يتجاوز الثامنة من عمره. فمقابل ليرتين سورتين، غنى أولى القصائد أمام الملأ والتي تقول (مقلتي قد نلت كل الأرب / هذه أنوار طه العربي / هذه الأنوار ظهرت / وبدت من خلف تلك الحُجب).

وفي سن مبكرة أيضا، تمكن من ختم القرآن وتلاوة سوره في جوامع حلب وحلقات النقشبندية، مفتتحا أول تمارينه مع الشيخ بكري الكردي، أحد أبرز مشايخ الموسيقى.

اشتد عوده وازداد تعلقه بالإنشاد والتجويد، من خلال مجالسته كبار منشدي الطرب الأصيل واجتاز امتحانات غنائية صعبة على أيدي”السمّيعة” الذين يتمتعون بآذان لا تخطئ النغم وتكشف خامات الصوت وتجري اختبارات حتى لكبار الأصوات آنذاك؛ مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم اللذين زارا حلب للغناء على مسارحها في ثلاثينيات القرن الماضي.

دعم نسائي

وقد ساهمت “خوانم” أو نساء ذلك الزمن بصعود نجم الفتى حيث أن من العادات الاجتماعية لسيدات حلب تحديد موعد شهري لكل سيدة تستقبل فيه من ترغب من معارفها، وتكون الدار مفتوحة على الغناء والعزف والرقص وهو ما كان يسمى “القبول” وصارت النساء يطلبنه للغناء في هذه التجمعات.

التحق بالمدرسة الحكومية الحمدانية في حلب، وهناك برز تفوقه كتلميذ يشارك في المهرجانات السنوية للمدرسة.

ويروي كتاب “صباح فخري سيرة وتراث”، للكاتبة السورية شدا نصار، أبرز مراحل حياة فخري على مدى عقود حيث تقول الكاتبة إن الفنان سامي الشوا تعهده بالرعاية وغير اسم الفنان الناشئ إلى “محمد صباح”واصطحبه معه في جولات غنائية في المحافظات.

في حضرة الرئيس

ولم يكد محمد صباح (صباح فخري فيما بعد) يبلغ الثانية عشرة من عمره حتى وجد نفسه يغني في حضرة رئيس الجمهورية السورية آنذاك، شكري القوتلي، خلال زيارته إلى حلب عام 1946، مما اعُتبر محطة مصيرية قفزت بفتى الموشحات إلى خارج حدود حلب.

رفض محمد صباح العرض الذي قدم له بالسفر إلى مصر، آنذاك، لصقل موهبته وآثر البقاء في دمشق والغناء عبر إذاعتها الرسمية. وتقول الكاتبة شذا نصار إن السياسي المخضرم، النائب فخري البارودي، كان قد أسس معهدا للموسيقى في دمشق وأعجب بخامة صوت محمد صباح الفريدة، وتوقع لها مستقبلا ساطعا.

شقيق قباني يسميه

وتضيف الكاتبة “في إحدى الحفلات الإذاعية المباشرة على الهواء والتي كان يقدمها المذيع صباح القباني شقيق الشاعر نزار قباني أراد النائب فخري البارودي أن يتبنى المطرب محمد صباح ويعطيه لقبه فقدم المذيع المطرب باسم صباح فخري”.

وبمساعدة موسيقية من الفنان عمر البطش، وضع صباح فخري أولى تجاربه في التلحين عن عمر لم يتجاوز 14 عاما وكانت أنشودة (يارايحين لبيت الله / مع السلامة وألف سلام / مبروك عليك يا عبد الله/ يا قاصد كعبة الإسلام).

جاءت أول أدوار فخري القديمة من ألحان سري الطنبورجي؛ وهو حمصي المنشأ سكن في دمشق وعمل بائع أحذية، وتقول الأغنية (أنا في سكرين من خمر وعين)، وأضحت القصيدة ملتصقة باسم صباح فخري بعد أن أضاف إليها من روحه في اللحن والكلمة.

تغير الحنجرة المفاجئ

لكن انتقال حنجرة فخري من الصبا إلى الشباب تسبب في حشرجة فاجأت صاحبها وصعقت خبراء الغناء إذ يقول الكتاب إن هرمونات الرجولة غيرت من طبيعة صوته وتكوين حنجرته الذي بدا كالمبحوح.

وتقول نصار “لعبت الحالة النفسية لصباح دورها السلبي. كلما حاول أن يرفع عقيرته للغناء كان يفاجأ بشخص آخر يغني من حنجرته. إنه ليس صوتي.. لست أنا ما الذي حصل؟ كلها تساؤلات كان يضج بها رأس الشاب الذي بدأ يشعر بفقدان أغلى ما وهبه إياه الخالق”.

وفي سن الخامسة عشرة أطبق صباح فخري على صوته واعتزل الغناء مكرها، فراح يبحث عن لقمة عيشه في الترحال بين قرى ريف حلب إلى أن التحق بالخدمة العسكرية عندما أصبح شابا يافعا.

عودة إلى الضوء

وتقول الكاتبة “مع اكتمال رجولته تبلورت حنجرته واكتمل تكوينها فأعادت للكنز الدفين تألقه وعاد صوت صباح فخري الرجل يشق لنفسه مكانا بين ذكريات سنين المراهقة في أحياء حلب وبيوتها”.

عاد فخري إلى أضواء الشهرة من بوابة إذاعة حلب وسهرات إذاعة دمشق وما كان يعرف بخيمة حماد التي غنى فيها مع المطربة اللبنانية صباح، وهناك قدم الموال بالقدود الحلبية وغنى (مالك يا حلوة مالك) و(يا مال الشام ويالله يا مالي /طال المطال يا حلوة تعالي).

غنى صباح فخري (نغم الأمس) مع رفيق سبيعي وصباح الجزائري حيث سجل ما يقرب من 160 لحنا ما بين أغنية وقصيدة ودور وموشح وموال، وقد حافظ على التراث الموسيقي العربي الذي تتفرد وتشتهر به حلب.

فيض إنتاج

سجل المسلسل الإذاعي (زرياب) كما لحن وغنى العديد من القصائد العربية حيث غنى لأبي الطيب المتنبي وأبو فراس الحمداني ومسكين الدارمي ولابن الفارض والرواس وابن زيدون وابن زهر الأندلسي ولسان الدين الخطيب.

وقف في عام 1974 أمام الفنانة وردة الجزائرية بطلا لمسلسل (الوادي الكبير) الذي تم تصويره في لبنان.

تقلد وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة عام 2007، تقديراً لفنه وجهده في الحفاظ على الفن العربي الأصيل ولرفعه راية استمرارية التراث الفني العربي الأصيل” كما جاء في منشور التكريم.

سجل رقما قياسيا من خلال غنائه على المسرح مدة تتجاوز عشر ساعات متواصلة دون استراحة في مدينة كراكاس الفنزولية عام 1968.

وشغل مناصب عدة بينها نقيب الفنانين في سوريا لأكثر من دورة ثم نائب رئيس اتحاد الفنانين العرب، كما انتخب عضوا في مجلس الشعبالسوري في دورته التشريعية السابعة لعام 1998.