لم يُخلق أحدٌ ليعاديك

بقلم / جهينة المفتي

إن لم تخني الذاكرة فلم يسبق لي أن سمعت مُدرسة أو مُدرس ما خلال مراحلي الدارسية كلها يحدثنا عن كرامة الانسان وحريته في دينه ومأكله ولباسه ونمط حياته، بل تطفل مريع باسم النصيحة لطريق الحق، لم يكن يتخلل الحوارات الجانبية في الحصص إلا الحديث عن نمص الحواجب والنقاب وطلاء الأظافر  أو اليهود والنصارى والغزو الفكري أو الجنة والنار وعذاب القبر وقد كانت الثلاثية الأخيرة تؤرق ليلنا وتأخذ مساحة كبيرة من تفكيرنا، كانت خطابات تقلص من اتساع اخيلتنا وتمحق شخصياتنا لإستنساخ نماذج هلامية تدعي المثالية.

منهجية الكره والعداء والتحريض ضد الأطياف الأخرى في المجتمع كانت ومازالت مخيمة على رؤوس المتخلفين عن الحضارة والتقدم، غريزة العداء العنصري والطائفي ما زالت تتغذى من شحن الخطاب الديني المتزمت تجاه الآخرين و

كلما أتذكر تلك الفتاة الهادئة التي كانت تجلس إلى جواري في المدرسة أشعر بالأسف الشديد على النسيج الاجتماعي الهش الذي نعيشه، كانت مجرد زميلة أتشارك معها الأقلام أحيانا وأتحدث إليها قليلا وقت الفسحة، غالبا لم تكن تتحدث إلى أحد وتمضي شاردة في الحصص الفارغة حتى تقربت منها يوما بعد آخر، كانت لطيفة وبشوشة وسرعان ما تشعر بالوئام معها وتحبها، خضنا يوما في حديث طويل وأنتهى باعتراف جعلني أشعر بالدوار للحظة وتراءت لي كأنها عدو أو شخص خُلِق ليعبث بحياتي قالت حينها: أنا مسيحية ولم أخبر أحد بذلك أخاف من النفور والكره الذي سيتولد لدى الجميع فور معرفتهم، ساد الصمت قليلا بيننا وسألتني: معد بنكونش اصحاب؟!

حتماً لم أتخلى عنها وظلت صديقتي حتى مرحلتنا الدراسية الأخيرة، ما أعرفه هو أن والدها من تعز و والدتها روسية مسيحية الديانة وغير ذلك لا يهم.

يؤكد لنا ذلك أن التحيز والانغلاق لجماعة أو لطائفة ما يشكل عقبة أمام نهضة المجتمع وتماسكه بل إن الانغلاق على الجماعات الأخرى وعدم الاندماج معهم يثير النفور ويهيىء أرضا خصبة للنزاع ويكون التحريض والوشاية حينها أسهل وسيلة لخلق أزمات عدة بينهم، فكل فئة تجيش ضد الآخرى وترى نفسها صاحبة الحق الأول بينما لو كنا نمتلك خطابات متنزنة ومتنوعة لاتتعمد الاقصاء لأي طرف أو جهة كانت حدة العراك العقائدي والطائفي والعنصري ستختفي تدريجيا، فلسنا نطالب بتوحيد الآراء والمعتقدات بل بخطاب مسؤول أساسه المبادىء واحترام الانسان، خطاب لا يجرم ثقافته وديانته وشكله أو لونه، يدعو لبناء ثقافة حقيقة ووعي فكري متجدد لا يخوض في الإرث الديني أو الاجتماعي أو يدعو للكراهية ،لا يحمل فيه لهجته العنف والتحشيد ضد حياة الانسان وحقه في أن يحيا بسلام.

(نقلا عن منظمة نسيج الإعلامية)